الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
المسألة الثانية:قوله تعالى: {فِى جنات وَعُيُونٍ} أما الجنات فأربعة لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]. ثم قال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]. فيكون المجموع أربعة وقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} يؤكد ما قلناه، لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه عن الخوف من الله تعالى وقوله: {وَلِمَنْ خَافَ} يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرة واحدة، وأما العيون فيحتمل أن يكون المراد منها ما ذكر الله تعالى في قوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وأنهار مّنْ خمرٍ لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15]، ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون ينابيع مغايرة لتلك الأنهار.فإن قيل: أتقولون إن كل واحد من المتقين يختص بعيون، أو تجري تلك العيون من بعض إلى بعض قيل: لا يمتنع كل واحد من الوجهين فيجوز أن يختص كل أحد بعين وينتفع به كل من في خدمته من الحور والولدان، ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهواتهم، ويحتمل أن يكون يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد وقوله: {ادخلوها بِسَلامٍ ءامِنِينَ} يحتمل أن القائل لقوله: {ادخلوها} هو الله تعالى وأن يكون ذلك القائل بعض ملائكته، وفيه سؤال لأنه تعالى حكم قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون، وإذا كانوا فيها فكيف يمكن أن يقال لهم: {ادخلوها}.والجواب عنه من وجهين: الأول: لعل المراد به قيل لهم قبل دخولهم فيها: {ادخلوها بِسَلامٍ}.الثاني: لعل المراد لما ملكوا جنات كثيرة فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها وقوله: {ادخلوها بِسَلامٍ ءَامِنِينَ} المراد ادخلوا الجنة مع السلامة من كل الآفات في الحال ومع القطع ببقاء هذه السلامة، والأمن من زوالها.ثم قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مّنْ غِلٍّ} والغل الحقد الكامن في القلب وهو مأخوذ من قولهم: أغل في جوفه وتغلغل، أي إن كان لأحدهم في الدنيا غل على آخر نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم، وعن علي عليه السلام أنه قال: أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم، وحكى عن الحرث بن الأعور أنه كان جالسًا عند علي عليه السلام إذ دخل زكريا بن طلحة فقال له علي: مرحبًا بك يا ابن أخي، أما والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى في حقهم: {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مّنْ غِلٍّ} فقال الحرث: كلا بل الله أعدل من أن يجعلك وطلحة في مكان واحد.قال عليه السلام: فلمن هذه الآية؟ لا أم لك يا أعور، وروي أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص لبعضهم من بعض، ثم يؤمر بهم إلى الجنة.وقد نقى الله قلوبهم من الغل والغش، والحقد والحسد، وقوله: {إِخْوَانًا} نصب على الحال وليس المراد الأخوة في النسب بل المراد الأخوة في المودة والمخالصة كما قال: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67]، وقوله: {على سُرُرٍ متقابلين} السرير معروف والجمع أسرة وسرر قال أبو عبيدة يقال: سرر وسرر بفتح الراء وكذا كل فعيل من المضاعف فإن جمعه فعل وفعل نحو: سرر وسرر، وجدد وجدد قال المفضل: بعض تميم وكلب يفتحون، لأنهم يستثقلون ضمتين متواليتين في حرفين من جنس واحد، وقال بعض أهل المعاني: السرير مجلس رفيع مهيأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور.قال الليث: وسرير العيش مستقره الذي اطمأن إليه في حال سروره وفرحه قال ابن عباس: يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية، وقوله: {متقابلين} التقابل التواجه، وهو نقيض التدابر، ولا شك أن المواجهة أشرف الأحوال وقوله: {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} النصب الإعياء والتعب أي لا ينالهم فيها تعب: {وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} والمراد به كونه خلودًا بلا زوال وبقاء بلا فناء، وكمالًا بلا نقصان، وفوزًا بلا حرمان.واعلم أن للثواب أربع شرائط: وهي أن تكون منافع مقرونة بالتعظيم خالصة عن الشوائب دائمة.أما القيد الأول: وهو كونها منفعة فإليه الإشارة بقوله: {إِنَّ المتقين في جنات وَعُيُونٍ}.وأما القيد الثاني: وهو كونها مقرونة بالتعظيم فإليه الإشارة بقوله: {ادخلوها بِسَلامٍ ءَامِنِينَ} لأن الله سبحانه إذا قال لعبيده هذا الكلام أشعر ذلك بنهاية التعظيم وغاية الإجلال.وأما القيد الثالث: وهو كون تلك المنافع خالصة عن شوائب الضرر، فاعلم أن المضار إما أن تكون روحانية، وإما أن تكون جسمانية، أما المضار الروحانية فهي الحقد، والحسد، والغل، والغضب، وأما المضار الجسمانية فكالإعياء والتعب فقوله: {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين} إشارة إلى نفي المضار الروحانية وقوله: {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} إشارة إلى نفي المضار الجسمانية.وأما القيد الرابع: وهو كون تلك المنافع دائمة آمنة من الزوال فإليه الإشارة بقوله: {وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} فهذا ترتيب حسن معقول بناء على القيود الأربعة المعتبرة في ماهية الثواب ولحكماء الإسلام في هذه الآية مقال، فإنهم قالوا: المراد من قوله: {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مّنْ غِلٍّ} إشارة إلى أن الأرواح القدسية النطقية نقية مطهرة عن علائق القوى الشهوانية والغضبية، مبرأة عن حوادث الوهم والخيال، وقوله: {إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين} معناه أن تلك النفوس لما صارت صافية عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام، ووقع عليها أنوار عالم الكبرياء والجلال فأشرقت بتلك الأنوار الإلهية، وتلألأت بتلك الأضواء الصمدية، فكل نور فاض على واحد منها انعكس منه على الآخر مثل المزايا المتقابلة المتحاذية، فلكونها بهذه الصفة وقع التعبير عنها بقوله: {إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين}، والله أعلم. اهـ.
ويجمع أيضًا إخوانًا و{سرر} جمع سرير، و{متقابلين} الظاهر أن معناه في الوجوه، إذ الأسرة متقابلة فهي أحسن في الرتبة، قال مجاهد لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه، وقيل {متقابلين} في المودة، وقيل غير هذا مما لا يعطيه اللفظ، والنصب التعب، يقع على القليل والكثير، ومن الكثير قول موسى عليه السلام {لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا} [الكهف: 62]، ومن ذلك قول الشاعر: الطويل. اهـ.
وقد مضى هذا في آل عمران.{إِخْوَانًا على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} أي لا ينظر بعضهم إلى قَفَا بعض تواصلًا وتحابُبًا؛ عن مجاهد وغيره.وقيل: الأسِرة تدور كيفما شاءوا، فلا يرى أحد قفا أحد.وقيل: {متقابلين} قد أقبلت عليهم الأزواج وأقبلوا عليهن بالودّ.وسُرُر جمع سرير.مثل جديد وجدد.وقيل: هو من السرور؛ فكأنه مكان رفيع ممهَّد للسرور.والأوّل أظهر.قال ابن عباس: على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر، السرير ما بين صنعاء إلى الجابية وما بين عدن إلى أيْلة.{وإخوانًا} نصب على الحال من {المتقين} أو من المضمر في {ادخلوها}، أو من المضمر في {آمنين}، أو يكون حالًا مقدرة من الهاء والميم في {صدورهم}.{لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} أي إعياء وتعب.{وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} دليل على أن نعيم الجنة دائم لا يزول، وأن أهلها فيها باقون.أكلها دائم؛ {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [ص: 54]. اهـ.
|